منتدى الأمير
مرحبا بكم في منتدى متوسطة الامير عبد القادر بوادي رهيو ولاية غليزان-الجزائر
منتدى الأمير
مرحبا بكم في منتدى متوسطة الامير عبد القادر بوادي رهيو ولاية غليزان-الجزائر
منتدى الأمير
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى الأمير

مرحبا بكم في منتدى متوسطة الأميرعبد القادر بوادي رهيو ولاية غليزان
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الإمام مالك- إمام دار الهجرة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
zaki
الممتاز
الممتاز
zaki


ذكر عدد الرسائل : 371
العمر : 62
الموقع : ahmed_pef@hotmail.fr
العمل/الترفيه : استاذ تعليم اساسي
المزاج : حسب الظروف
تاريخ التسجيل : 12/10/2008

الإمام مالك- إمام دار الهجرة Empty
مُساهمةموضوع: الإمام مالك- إمام دار الهجرة   الإمام مالك- إمام دار الهجرة I_icon_minitimeالجمعة 26 مارس 2010, 22:13

الإمام مالك- إمام دار الهجرة
الموسوعة
الإسلامية المعاصرة



ميلاده ونسبه ونشأته وطلبه للعلم:

ولد
الإمام مالك بن أنس عام 93هـ وتوفي عام 179هـ، في المدينة المنورة من أسرة
أصلها من اليمن، وكانت أسرته هذه أسرة علم، ووالده أنس كان عالمًا، واسم
جده: مالك أبو عامر الأصبحي، وكان مُحَدِّثًا وراويًا؛ سمع الحديث من أبي
بكر وعمر وعثمان وكثير من الصحابة -رضي الله عنهم، ولقد روى مالك الحديث عن
أبيه وجده، ويُروَى أنه ذات ليلة -وقد اجتمع أفراد أسرة مالك على عادتهم
محلِّقين حول الأب يسرد عليهم بعض وقائع أيامه وأحداثه- سأل الوالد أبناءه
سؤالاً في الدين فأجابوه جميعًا إجابات سليمة صحيحة عدا مالك الذي عجز
وتلجلج، وكان في العاشرة من عمره قد حفظ القرآن الكريم وشيئًا من حديث رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- إلا أنَّ عقله في مثل سنه لم يكن ليسمح له
بالفهم والعلم، فعجز عن الجواب فعنَّفه أبوه أنس ووبخه ونهره لانشغاله
باللعب عن طلب العلم.

وانفجر
مالك بالبكاء وهو يأوي إلى صدر أمه، فضمَّته إليها وعانقته ولاطفته وخففت
عنه ما به من حزن وألم، وفي اليوم التالي شدَّت على رأسه عمامة جديدة
وضمَّخته بأطيب العطر، وأشارت عليه بإتيان مسجد الرسول الأعظم -صلى الله
عليه وسلم- والجلوس إلى حلقات العلم المنتشرة هناك، ودعت له بالخير
وبالتفقه والفهم والحفظ، ومنذ ذلك اليوم لازمته عادة الاستحمام والتطيب
كلما أتى مجلس العلم سواء كان متعلمًا أو معلمًا؛ فيكون في أحسن سمت وأكمل
مظهر وأرقى صورة، ودخل مالك بوابة العلم الكبرى ولم يغادرها حتى توفاه الله
تعالى.

وكان
يجد نفسه بحاجة إلى مزيد علم، فقد كان يهمه أحيانًا أمر علمي أو مسألة،
فبعد أن تنفضَّ الحلقات ويأوي الشيوخ إلى دورهم فلا يجد مالك صبرًا إلى
الغد كي يسأل ويفهم؛ لذا راح يسعى إلى الشيوخ في بيوتهم ومساكنهم، وقد
ينتظر أحدهم في الطريق الساعات الطوال ما يجد فيها ظل شجرة تقيه حرارة
الشمس، حتى إذا ما رآه يدخل داره ينتظر لحظات ثم يقرع الباب، وكان في بعض
الأحيان يحمل معه تمرًا يهديه لجارية الفقيه لتمكِّنه من الدخول على
العالم.

وتعلق
بالعلم تعلقًا جادًّا؛ فلزم عبد الرحمن بن هرمز -عالم من أجلِّ علماء
المدينة- سبع سنوات لم يتخلف فيها إلى غيره، وكان يأخذ عنه المسائل
الاجتهادية وقضايا الفقه، وكان ابن هرمز مشهورًا بقوة عارضته ودلائل الحق،
ويقول الإمام مالك عن نفسه أنه اتخذ لنفسه ما يشبه الطرّاحة الصغيرة، كان
يأخذها معه فيجلس على صخرة أمام دار ابن هرمز، ولم يكن يطرق بابه خوفًا من
أن يزعجه، منتظرًا خروج الإمام -يعني ابن هرمز- إلى الصلاة، فإذا خرج اتبعه
وذهب معه إلى المسجد.

ثم
بدأ يأخذ عن نافع مولى عبد الله بن عمر، وكان من أحفظ علماء الحديث، كان
حافظًا فقيهًا أخذ الفقه والحديث عن ابن عمر، ثم أخذ عن الزهري، وكان
يلازمه كما لازم ابن هرمز، وكان يسير معه من بيته إلى المسجد، يقول الإمام
مالك عن نفسه: كنت أخرج من وقت الظهيرة وليس للأشياء ظل أتيمم درسًا عند
الزهري.

وأخذ
مالك الحديث عن الزهري مع قلة من إخوانه، ويقال: إن الزهري حدَّثه في يوم
من الأيام نيفًا وأربعين حديثًا له ولبعض زملائه، فلما عادوا في اليوم
التالي قال الزهري: أستحضرتم كتابًا لتسجلوا ما أُملي عليكم خيفة أن
تنسوها؟ فقال قائل منهم: ينبئك عنها هذا الشاب الأشقر -أي الإمام مالك،
فسأله الزهري، فَتَلَى عليه منها أربعين حديثًا مع أسانيدها، فقال الزهري:
والله ظننتُ أنَّ أحدًا يأتيها غيري (أي لا يحفظه).


وكان
الإمام مالك إذا جلس لتلقي الحديث يسجل الحديث وهو جالس، ولما سُئِلَ: هل
أخذتَ من عمرو بن دينار؟ قال: لم آخذ؛ وذلك لأني ذهبتُ إلى مجلسه فرأيته
يُحَدِّث والناس حوله واقفين يكتبون عنه، فلم أحب أن أكتب حديث رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- وأنا قائم؛ لأنه كان يرى في هذا منقصة لحديث رسول
الله -صلى الله عليه وسلم.

وتلقى
الإمام مالك الفقه عن شيخه الكبير ربيعة الذي كان يُلَقَّب بـ (ربيعة الرأي) مع أنه كان من علماء أهل المدينة.

تفوقه العلمي وجلوسه للفتيا:

تفوَّقت
مكانة مالك العلمية على كل أرباب الحلقات في المسجد النبوي، وعرف له
الجميع هذه المكانة؛ سواء كانوا من شيوخه السابقين أو من العلماء الذين
عاصروه، وجلس الإمام مالك للفتيا وعمره 25 سنة تقريبًا على أصحّ الروايات،
ويقول عن نفسه: لَمْ أجلس للفتيا حتى أمرني بالفتيا قرابة سبعين عالمًا،
وأصبح رأيه في أية قضية تُعرض أو فتواه فيها مقدَّمًا على غيره مما جعل
أصحاب الفتيا يتوقفون حتى قيل من غير حرج: لا يُفتى ومالك في المدينة.

ومما
اشتهر به مالك أنه كان يقول لجاريته إذا جاء الناس إلى بابه ليسمعوا العلم
أن تسألهم: هل جئتم لسماع الحديث أم ابتغاء المسائل؟ فإن قالوا: جئنا
للمسائل، خرج إليهم وسمع منهم وأفتاهم، وإن قالوا: جئنا لنسمع الحديث، قالت
الجارية: تريثوا قليلاً، فتُدخلهم إلى الدار، ويدخل مالك فيغتسل ويلبس
أحسن ثيابه وتحديدًا البياض من الثياب، ويتطيَّب ثم يدخل عليهم ليروي حديث
رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وكان يبكي إذا قال: قال رسول الله -صلى
الله عليه وسلم.

عاش
مالك في المدينة المنورة ولم يبارحها (بخلاف كثير
من العلماء
) إلى أي جهة أخرى ليأخذ العلم من العلماء؛ إذ إن المدينة
هي دار هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان العلماء هم الذين يرحلون
إليها من جميع أنحاء العالم، إما للحج أو الزيارة أو مجالسة علماء المدينة،
فكان أطيب الطِّيب عند مالك ما يفوح وينتشر من قبر المصطفى -صلوات الله
وسلامه عليه- وأرقّ النسيم ما يهبُّ حاملاً ذكريات الماضي وذكريات الوحي
والنبوة والجهاد والبطولة، وبالرغم من أنه لم يغادر المدينة إلا أنه اطلع
على الظروف والبيئات المختلفة؛ بسبب احتكاكه بالعلماء من جميع أنحاء العالم
الذين كانوا إذا قدِموا المدينة وزاروه، وإن لم يزوروه قدِمَ هو إليهم
يلقاهم ويتناقش معهم؛ لذلك اتسعت آفاقه الفكرية ومداركه الاجتهادية، وأقام
للمصلحة التي هي محور الشريعة الإسلامية ميزانًا دقيقًا كما ستجد.

واختار
دار الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود سكنًا له، وكأنه يريد أن يشعر على
الدوام بنبضات عصر النبوة تخفق مع خفقات قلبه وتتردد مع أنفاسه، ويعيش يومه
كله في عبق كريم، وهذا التواصل الوجداني بين مالك وبين حبيبه المصطفى -صلى
الله عليه وسلم- جعله في عقله وحسه يتَّخذ من حديث رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- أساسًا ومحورًا لعلمه وفقهه.

كان
مالك في صدر حياته فقيرًا، وكان والده صانعًا، وتفرَّغ مالك للعلم فأورثه
ذلك شيئًا من الفقر، ولم تكن يومها تنفق الدولة على طلبة العلم، ثم لما كان
ذلك ارتاح العلماء وازدهر العلم كثيرًا، لكنه بعد ذلك استغنى؛ إذ كان له
أخ يعمل بالتجارة، فكان مالك إذا تجمع له مال يعطيه لأخيه ليتاجر له به، ثم
فتح الله عليه واستغنى فكان كثير العطاء لطلبة العلم، وكان يحب أن يظهر
أثر نعمة الله -عز وجل- عليه في ملبسه ومطعمه ومسكنه، وصار متجملاً في
مظهره، وكان الذين يغشون داره من الضيوف يجدون في أطرافها المخدات للاتكاء
والجلوس، ويجدون كل أسباب الراحة والنظافة والمظهر الأنيق في داره، ولم يكن
هذا عن حب للمال بل كان ينفق معظم ماله في طرق الخير، تمامًا كأبي حنيفة
والشافعي -رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

ويُروَى
عنه في الأثر المشهور أنه قال: ما أحب لامرئ أنعم الله عليه أن يُري أثر
نعمته عليه وخاصة أهل العلم.

ويروي
الشافعي أنه في إحدى زياراته لبيت الإمام مالك رأى على الباب هدايا من خيل
وبغال أعجبته، فقال لمالك بعد أن دخل عليه: ما أحسن هذه الأفراس والبغال.
فرد عليه مالك يقول: هي لك فخذها جميعًا. قال الشافعي: ألا تبقي لك منها
دابة تركبها؟ فقال مالك: إني لأستحي من الله تعالى أن أطأ تربة فيها رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- بحافر دابة! إلى هذا الحد من الحساسية المفرطة
في الحب والتقديس بلغ العشق في قلب مالك للمدينة التي تضم أطهر الأجساد
وأعظم خلق الله وأكرم الناس -عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.

ورعه وتخوّفه من الفتوى:

اشتُهِرَ
عن الإمام مالك كثرة ترداده لكلمة (لا أدري
وما كان عليه شيء أسهل من هذه الكلمة، ولم يكن يشعر أن في هذا منقصة له،
بل كان إذا سُئِلَ عن مسألة قال للسائل: أنظرني حتى أفكر، وربما يأتيه في
الغد فيجيبه وربما يقول له أيضًا: أنظرني، ويُروى أنَّ رجلاً جاءه من أقصى
المغرب فسأله عن موضوع وقال: جئتك من مسيرة ستة أشهر من المغرب وحُمِّلتُ
هذا السؤال، فقال له مالك: قل لمن أرسلك إنه لا يدري! قال: فمن الذي يعلم؟
قال: الذي علَّمه الله ولم يجبه، ولكن قال له: إن شئتَ عُدْ غدًا ريثما
أفكر بها وأقرأ ما يمكن أن يتصل بها، حتى إذا جاء الغد جاءه الرجل فقال له
مالك: فكرت بها مليًا ولا أدري ما الجواب!

ولقد
عوتب مالك في ذلك فبكى وقال: إني أخاف أن يكون لي في المسائل يوم، وأي
يوم؟! وقال لهؤلاء المنتقدين: مَن أحبَّ أن يجيب عن مسألة فليعرض على نفسه
الجنة والنار وليتصور موقفه من الله غدًا. فلننظر جميعًا إلى هذا الرجل
الذي هان عليه أن يظهر جهله، وهو العالِم الذي يوثق بعلمه، أين نحن اليوم
من موقفه هذا؟ حيث الواحد منا إذا ما سُئِلَ اعتصر دماغه وذهنه، وقد يصل به
الأمر إلى أن يلفق جوابًا خوفًا من أن يقول عنه الناس: إنه جاهل!! وهذا
الأمر وللأسف الشديد كثيرًا ما يحدث مع علمائنا اليوم الذين يسارعون
بالفتوى، الأمر الذي يوضح لنا الفرق بين هذا العصر وذلك العصر، ولعل هذه
المقارنة توضح لنا أيضًا الفرق بين قرب أولئك الأئمة من رحمة الله تعالى
وبعدنا نحن عنها، أضف إلى ذلك كله سمو أهدافهم ومقاصدهم؛ حيث كان همُّهم
الأكبر مرضاة الله -سبحانه وتعالى- نسأل الله -عز وجل- العفو والعافية، وأن
يرزقنا الإخلاص، وأن نحيا محياهم وأن نُحشر معهم إن شاء الله تعالى.

وجاء
في ترتيب المدارك للقاضي عياض: قال مصعب بن عبد الله: كان مالك إذا ذكر
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تغيَّر لونه وانحنى حتى يصعب ذلك على
جلسائه، فقيل له يومًا في ذلك، فقال: لو رأيتم لما أنكرتم عليّ ما ترون؛
كنت آتي محمد بن المنكدر وكان سيد القرّاء (أي سيد
العلماء
) لا نكاد نسأله عن حديث إلا بكى حتى نرحمه، ولقد كنتُ آتي
جعفر بن محمد (أي جعفر الصادق) وكان كثير
المزاح والتبسم، فإذا ذُكِرَ عنده النبي -صلى الله عليه وسلم- اخضرَّ
واصفرَّ، وكنتُ كلما أجد في قلبي قسوة آتي محمد بن المنكدر فأنظر إليه نظرة
فأتَّعِظ بنفسي أيامًا.

علاقته بخلفاء عصره:

عاش
مالك في الخلافة الأموية والعباسية في عصر تسوده الفتن، وكان موقفه كموقف
الحسن البصري وسعيد بن المسيب الذين كانا قبله وهو موقف استنكار الفتن
والدعوة إلى الابتعاد عنها، وكان إذا سُئِلَ عن تلك الفتن نصح بالابتعاد
عنها وبعدم الولوج فيها، وقد صح أن الحسن البصري كان ينهى عن الدعاء على
أمثال الحجاج وغيره، وكان ينهى عن مد اللسان في قول السوء في حقهم، على
الرغم من أنه لو شققنا صدر الحسن البصري لرأيناه يستنكر الكثير من أعمالهم،
وقد سمع مرة الحسن البصري رجلاً يسب الحجاج فقال له: لا تفعل يرحمك الله
إنكم من أنفسكم أوتيتم، إننا نخاف إن عُزِلَ الحجاج أو مات أن تليكم القردة
والخنازير. وروى البصري عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوله المشهور:
"عمّالكم عملكم، وكما تكونوا يُوَلّى عليكم". (عمالكم)
أي رؤساؤكم، (هم أعمالكم) أي انعكاس
لأعمالكم.

وكان
الإمام مالك ممن يغشى مجالس الخلفاء ولم يكن يبتعد عنها؛ وذلك للنصح
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوصية بالخير، فما كان يوفر جهدًا
ليوصي الخليفة أو ينصحه عندما تسنح الفرصة، وقد عوتب في ذلك فقال: لولا أني
أتيتهم ما رأيتُ للنبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه المدينة سنَّة معمول
بها، فكان إذا أتاهم نصحهم لكي يحيوا سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وخاصة
في المدينة المنورة، وكانوا يستجيبون لنصيحته.

ولكنه
كان إلى جانب ذلك يحترم نفسه في مجالس الخليفة والولاة، وكان يفرض سلطانه
عليهم، وكان -إلى جانب كونه مهابًا- يحافظ على عزة نفسه في هذه المجالس على
خلاف عادته في المساجد؛ حيث كان إذا دخل المسجد يقف في آخر الصف ولا يأبى
أن يتقدم، وإن أصرّوا على تقديمه ويجلس حيث ينتهي به المجلس، وكان كثير
التواضع، ولكن إذا غشي مجلس الخلفاء أو الولاة فرض عزته على المجلس كله.

جاء
المهدي مرة إلى المدينة واجتمع إليه الناس والعلماء، وذهب مالك ليزوره،
فلما وصل وجد المجلس مزدحمًا، والتفت الناس ينظرون أين سيجلس مالك يا تُرى؟
وما سيكون موقفه؟ فقال الإمام مالك للمهدي: يا أمير المؤمنين أين يجلس
شيخك مالك؟ فتضامَّ المهدي وصغَّر من جلسته وقال: ها هنا يا أبا عبد الله
إلى جانبي، فوسع له ودخل مالك وتعالى ودينه أن يُهان في شخصه.

والإمام
مالك كان سمته سمت علم وإسلام ومحافظة على الشرع؛ لذا ينبغي لهذه السمة أن
تكون هي المهيمنة، وأن تكون هي العزيزة في كل مكان، فالله -تبارك وتعالى-
بالقدر الذي نهانا عن الكِبر أمرنا أن نعتز بالإسلام، وبالقدر الذي أمرنا
بالتواضع نهانا في الوقت نفسه عن الذل، وجاء في دعاء النبي -صلى الله عليه
وسلم: "اللهم إني أعوذ بك من الذل إلا إليك". وأي إنسان صاحب ذوق دقيق
يستطيع أن يفرِّق بين التواضع والذل المرفوض.

ولما
زار الرشيد المدينة وأراد لقاء مالك وكان قد سمع عن علمه الكثير، طلب أن
يأتيه حيث نزل، فقال مالك لرسول الخليفة: قل له إنَّ طالب العلم يسعى إليه
والعلم لا يسعى إلى أحد! فجاءه الخليفة زائرًا معتذرًا.

ولقد
روى الإمام مالك ذات مرة حديث: "ليس على مستكره يمين". وشرحه لتلامذته في
المسجد، وراح يبيِّن للناس أنَّ من طلَّق امرأته مُكرَهًا لا يقع منه
طلاق.. ولقد كان لهذا الحديث أثر كبير وحافز قوي لثورة أحد أحفاد الحسين بن
علي وهو النفس الزكية على السلطة العباسية وكان الخليفة وقتها المنصور،
وكان محمد يرى بأن أبا جعفر قد أخذ البيعة لنفسه غصبًا وإكراهًا؛ فليس له
في رقاب الناس يمين ولا عهد، وكان محمد يستند إلى فتوى مالك في أنه ليس على
مستكره يمين، وأحسَّ والي المدينة بخطورة الموقف؛ فأرسل إلى مالك أن يكفَّ
عن الكلام في هذا الحديث وأن يكتمه على الناس، فأبى مالك أن يكتم الحديث
أو أن يتراجع عن فتواه، فضُرِبَ أسواطًا على مرأى الناس، وجُذِبَ جذبًا
غليظًا من يديه وجُرَّ منها حتى انخلع أحد كتفيه، وحُمِلَ إلى داره وهو بين
الحياة والموت، وألزموه الإقامة في الدار إقامة جبرية في عزلة وحبس.

فزع
الناس في المدينة والتجأوا إلى الله تعالى يشكون الظلم والظالمين، واشتد
سخطهم على الوالي وعلى الخليفة، وغضب العلماء والفقهاء في كل الأمصار
والأقطار، ورأى المنصور أنه لا بد من تصرُّف يمتص غضب الناس ويزيح التهمة
عن نفسه؛ فأمر والي المدينة بإطلاق مالك، ثم جاء المنصور بنفسه إلى الحجاز
في موسم الحج والتقى بالإمام مالك واعتذر إليه وقال: أنا ما أمرتُ بالذي
كان ولا علمته، وإنه لا يزال أهل الحرمين بخير ما كنت بين أظهرهم. وأمر
بإحضار الوالي مهانًا وضربه وحبسه إلا أنَّ مالكًا عفا عنه.

أقوال بعض العلماء فيه:

أجمع
المؤرخون والمترجمون أن الإمام مالكًا بلغ الذروة في معرفة السنَّة
والحديث والفقه، وقلما نال عالم مثلما نال مالك من المدح، وأقرَّ له علماء
الرأي في العراق وعلماء الحديث في الحجاز بأنه إمام في كلٍّ منهما (أي الحديث والفقه).

قال
عنه سفيان بن عُيَينَة -وكان معاصرًا له: كان لا يبلغ من الحديث إلا
صحيحًا، ولا يحدِّث إلا عن ثقة للناس، وما أدري المدينة إلا ستخرب بعد موت
مالك. وقال عنه الشافعي: إذا جاءك الأثر عن مالك فشُدَّ به (أي تمسَّك به) وهو صحيح. ويقول: إذا ذُكِرَ العلماء
فمالك هو النجم فيهم.

أهم مؤلفاته (الموطأ):

طلب
المنصور من مالك أن يضع كتابًا يتضمَّن أحاديث رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وأقضية الصحابة والفتاوى؛ ليكون قانونًا تطبِّقه الدولة في كل
أقطارها وديارها، فتردد مالك ثم ألحَّ عليه المنصور فقبِلَ، وراح مالك يعمل
عملاً متقنًا جدًّا خلال سنين عدة، وراح خلالها طائفة من العلماء يعملون
ويحاولون أن ينافسوا مالكًا طمعًا في كسب رضا الخليفة، وكان أصحاب مالك
يأتونه ويقولون له بأنَّ تأخره في الإنجاز قد أتاح للآخرين أن يسبقوه،
فقال: لا يرتفع إلا ما أُريد به وجه الله تعالى. ولقد كتب كثير من معاصريه
كتبًا كالموطأ وقُدِّمَت إلى الخليفة، وكلما سُئِل مالك أن يستعجل كتابه
فقد سبقه الناس كان يقول: ما كان لله يبقى، حقيقة هكذا كان.

وظلَّ
الإمام مالك عاكفًا على عمله الضخم سنوات توفي خلالها المنصور حتى كان
تمام العمل في زمن هارون الرشيد الذي تقبَّله بقَبول حسن وتقدير عظيم،
وأراد أن يعلِّق الموطأ في الكعبة ولكن مالكًا أبى ذلك، ويُعتَبَر اليوم
كتاب الموطأ من أهم كتب السنَّة ويكاد لا تخلو منه مكتبة إسلامية، أما تلك
الكتب التي كتبها منافسوه فلم يبقَ لها أثر، وكما يقول العلماء: لولا هذه
الحادثة مع الإمام مالك لما علمنا أصلاً أنه ألِّفَت هكذا كتب، فتأمل
يرحمنا الله وإياك ولنتَّعِظ من هذا ولنتيقن إن كل عمل لا يُبتَغى به وجه
الله تعالى لا يبقى، ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا
وَجْهَهُ
[القصص: 88]، قيل في تفسير هذه
الآية، كل شيء هالك إلا ما ابتغي به وجه الله تعالى.

منهجه العلمي:

الإمام
مالك شأنه كشأن الإمام أبي حنيفة لم يدوِّن منهجًا، ولكن هذه القواعد
أُخذَت وجُمِّعَت من خلال عباراته في كتبه، وفي مقدمة ذلك كتاب الموطأ؛ فمن
خلال كلامه نجد أنه يأخذ بالحديث المُرسَل وهو الحديث الذي رواه التابعي
رأسًا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إن كان هذا التابعي ثقة.

أصوله الاجتهادية:

أولاً:
إذا وجد في القرآن نصًّا بعبارة صريحة قاطعة واضحة على مبدأ أو حكم، ثم
وجد حديثًا مرويًّا عن طريق الآحاد يعارض هذا الخبر فإنَّ مالكًا يأخذ
بصريح القرآن ويدع الآحاد.

قال
مالك وهو يفسر قوله تعالى: ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي
مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن
يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ
رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ
[الأنعام
: 145]
إلى آخر الآية، قال: هذا نص صريح وواضح بعدم تحريم غير ما
ذُكِر. وفي المقابل رُوِيَ في خبر الآحاد الصحيح عن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- يرويه أبو داود أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن أكل
كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطيور. فرجَّح مالك النص القرآني على
الآحاد؛ فيجوز عنده أكل كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور، وإن كان
جمهور الفقهاء على الحرمة.

ملاحظة:
الإمام مالك كغيره من العلماء يأخذ بالحديث الآحاد إن كان صحيحًا، وهو
عنده حجة، ولكن إذا تعارض مع نص من كتاب الله تعالى أو مع حديث متواتر ولم
يُمكن الجمع بينهما، قدَّم النص من كتاب الله -عز وجل- أو الحديث المتواتر،
ولم يجعل حديث الآحاد يخصص النص القرآني أو الحديث المتواتر كما فعل غيره
من الفقهاء كالشافعي مثلاً.

ثانيًا:
الإمام مالك يعيش في المدينة، وبصمات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
واضحة في هذه البلاد، فعادات أهل المدينة وما يتفق عليه علماء أهل المدينة
في عصره والعصر الذي قبله كلها من بقايا عصر النبوة؛ لأن العهد ما بَعُدَ
بينه وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم، بناءً على ذلك إذا وجد حديث آحاد
مرويًا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالسند ووجد عمل أهل المدينة
على خلاف ذلك الحديث فإنه يرجِّح عمل أهل المدينة على ذلك الحديث؛ لا لأنه
يرفض الحديث، ولكن لأنه يعتقد أن ما أجمع عليه علماء المدينة ما أخذوه من
عند أنفسهم، وإنما هي وراثة ورثوها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
ويقول الإمام مالك في رسالة للَّيث بن سعد: إنَّ أهل المدينة هم من الذين
قال الله تعالى عنهم: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ
مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ

[التوبة: 100]، وأوضح الله تعالى أنَّ هؤلاء
السابقين من المهاجرين والأنصار الذين استقر بهم المقام في المدينة المنورة
ينبغي أن يُتَّبعوا وأن نهتدي بهديهم.

مثال
ذلك: الحديث الصحيح الآتي: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرَّقا". فالشافعي
عنده التفرق هو تفرق الأبدان، وعند الحنفية هو تفرق موضوع الكلام، ولكن
مالكًا يقول: عمل أهل المدينة على خلاف هذا، فعلماء المدينة السبعة وعامة
الناس يقولون: إن العقد إذا تمَّ بالإيجاب والقَبول كان العقد لازمًا.

مثال
آخر: الحديث المشهور: "البيِّنة على المُدَّعي واليمين على مَن أنكر". قال
مالك: نأخذ بهذا الحديث ولكن يخَصِّصه ويُفَسَّره عمل أهل المدينة؛ وهو
أنَّ هذا الحديث يُطَبَّق بشرط أن ينظر القاضي فيجد أنَّ بين المدَّعي
والمُدَّعى عليه علاقة ما إمّا جوار أو قرابة أو شركة؛ فإن لم يجد القاضي
مثل هذه الصلة فله ألا يسمع الدعوى؛ وذلك لكي لا يتلاعب السفهاء بالوجهاء
فيأخذوا منهم أموالهم خشية تشويه سمعتهم، مثال ذلك: أن يدَّعي سفيه على أحد
الوجهاء دعوى باطلة، فلو أخذ بها القاضي لاضطر ذلك الوجيه إلى الذهاب إلى
القاضي، وعندها قد يدفع الوجيه شيئًا من المال للسفيه الذي ادعى عليه تلك
الدعوى الباطلة؛ وذلك لكي لا تُشوَّه سمعته بالامتثال بين يدي القاضي.

ثالثًا:
إذا ثبت قانون شرعي وقاعدة شرعية عامة مثل: (لا تزر
وازرة وِزر أخرى
) يقول الإمام مالك: إذا وجدنا بين هذه القاعدة
الضخمة الكبيرة وبين جزئيات الأدلة تناقضًا، نأخذ بالقاعدة ونترك هذه
الجزئيات.

مثال
ذلك: الحديث الصحيح عن عائشة -رضي الله عنها: "إنَّ الميِّت لَيُعَذَّب
ببكاء أهله عليه". قال مالك: هذا يتناقض مع القاعدة التي مرَّت معنا سابقًا
(لا تزر وازرة وزر أخرى)، وبناءً على ذلك
فلا ذنب للميت إن بكى أهله عليه؛ فلم يأخذ بالحديث، ولكن الشافعي مثلاً
-وهو تلميذ مالك- أخذ بالحديث وقال: إنَّ عذاب الميت في قبره هنا هو عذاب
نفسي وليس عقابًا من الله -عز وجل- وإنما هو عقاب خاص يأتي نتيجة لتصرفات
أهله، فهو يتألم من فعل أولاده، ويتمنى لهم الصلاح؛ لأن الله تعالى يُطلعه
على أفعالهم التي قد لا تخلو من معاصٍ وأمور مختلفة تكون سببًا لغضب الله
تعالى عليهم.

مثال
آخر: الإمام مالك وحده يفتي بعدم نجاسة لعاب الكلب وكذا رشحه، ولكن الحديث
الصحيح يقول: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه وليغسله سبعًا إحداهن
بالتراب". قال مالك: من المتفق عليه أنه يجوز استعمال الكلب في الصيد،
والكلب إذا اصطاد لا بد أن يمسك الطريدة بفمه ويصيبه من لعابه؛ لذلك أخذ
بالقاعدة العامة التي تفيد جواز صيد الكلب، ثم قال عن هذا الحديث: إنه
مضطرب، وهذا دليل ضعف، فقد ورد الحديث بعدة روايات: (أولهن،
آخراهن، إحداهن بالتراب
).

رابعًا:
الأخذ بالاستحسان؛ وهو عبارة عن جزئية صغيرة اقتضتها مصلحة دينية ثابتة في
كتاب الله، وإن عارضت هذه الجزئية مبدأ كليًّا ويؤخَذ به استثناءً.

مثال
ذلك: قاعدة (أن الأخ الميت إذا مات وترك: زوجًا
وأمًّا وإخوة لأم وأخًا شقيقًا؛ أي لأب وأم هذا يُسمَّى عصبة ويأخذ كل ما
تبقى من المال مثلاً إذا كان الميت ليس له إلا أخ يأخذ كل الأموال، وإذا
مات وليس له إلا أخ أو أخ شقيق، فالأم تأخذ السدس والأخ أو الإخوة الأشقاء
يأخذون الباقي
). فإن مات الأخ وترك: زوجًا وأمًّا وإخوة لأم وأخًا
شقيقًا، فالزوج يأخذ النصف، والأم تأخذ السدس، والإخوة لأم يأخذون الثلث،
فلم يبقى للأخ الشقيق شيء إن طبَّقنا هذه القاعدة.

هنا
الإمام مالك وغيره عادوا فوجدوا أنَّ الأمر قد رُفِعَ إلى سيدنا عمر -رضي
الله عنه- فحَكَمَ أنه ليس للإخوة الأشقاء شيء، فقال الإخوة الأشقاء: هب
أننا إخوة لأم فقط ألا يكون لنا؟ قال: نعم، ثم جعل الإخوة للأم والأخ
الشقيق يشتركون معًا في الباقي. والقاعدة على خلاف ذلك، ولكن هذه الجزئية
هي لمصلحة الشريعة؛ لأن الشريعة تقتضي هذا الاستثناء.

فائدة:

الحقيقة
أنه ليس بين الأئمة خلاف في الأصول الشرعية فإنهم متفقون على حوالي سبعين
بالمئة منها، وإنما هناك خلاف في العناوين يتعلق بالفروع الجزئية،
ويُشَكِّلُ حوالي ثلاثين بالمئة فقط؛ وذلك رحمة بالأمة وتوسيعًا عليها،
فالحمد لله أولاً وآخرًا الذي وفقهم أن يجتمعوا على ما اجتمعوا عليه؛ فإن
اجتماعهم هذا خير للأمَّة، والحمد لله الذي ألهمهم أن يختلفوا فيما
اختلفوا؛ فيه فإن اختلافهم أيضًا رحمة للأمة.

خامسًا:
مبدأ سد الذرائع: وهذا المبدأ مأخوذ من قوله تعالى: ﴿ وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ
فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ
﴾[الأنعام : 108]،
فالأئمة كلهم يأخذون بهذا المبدأ، ولكنهم يختلفون بالمقدار الذي ينبغي أن
يأخذوا به، مثال ذلك: سب المؤمن لدين كافر أو لمن يتخذه إلهًا بزعمه أصلُهُ
مباح، ولكن إذا كان هذا العمل المباح ينتج عنه عمل محرَّم كأن يسب الكافر
الله تعالى، فعندها يصبح هذا العمل -المباح في أصله- محرمًا، لا لذاته ولكن
لما قد ينتج عنه؛ وهذا ما يُسمَّى بمبدأ: سد الذرائع.

ومثال
ذلك أيضًا: إطالة السهر مباح أيضًا، ولكن إن كان هذا سيمنعك عن أن تستيقظ
لصلاة الصبح تحوَّل المباح إلى محرَّم، وهذا باتفاق الأئمة.

مثال
آخر: بيع السلاح في أصله مباح، ولكن إذا علمت أنَّ هذا يأخذ منك سلاحًا
ليؤذي به الآخرين أو كان وقت الفتنة فلا يجوز.

سادسًا:
المصالح المُرسَلة: رائدها في الشريعة الإمام مالك.

جاءت
الشريعة لتحقيق خمسة أنواع من المصالح، وهي على هذا الترتيب: الدين
والحياة والعقل والنسل أو العرض والمال، والأئمة الأربعة أخذوا بها.

المصالح
المرسلة هي أن يرى العالِم الفقيه أمامه مصلحة حديثة العهد طارئة، لم تكن
موجودة من قبل تقتضي حكمًا شرعيًّا، ولكن هذا الفقيه لا يجد عليه (أي على الحكم الشرعي) دليلاً من القرآن أو
السُنَّة، ولا يجد دليلاً على حكم يشبهه للقياس لا سلبًا ولا إيجابًا، فما
العمل؟ يقول مالك: أنا أعود بهذه المسألة في الحكم إلى جنس هذه المصلحة
التي يحققها الحكم، ننظر هل هي واحدة من هذه المصالح الخمس التي جاءت
الشريعة بحمايتها ورعايتها؟ فإن كانت واحدة من هذه المصالح وكان الأخذ بها
لا يُفَوِّت مصلحة أهمّ منها، يقول مالك: أنا أجتهد على وفق هذه المصلحة.
وهذا باب عظيم في الاجتهاد، وسنورد في ما يلي بعض الأمثلة والنماذج لتوضيح
الصورة:

1-
منع عمر بن عبد العزيز الناس أن يشتروا أراضٍ في مِنى وأن يبنوا عليها
بيوتًا لهم؛ لأن ذلك سيضيق على الحجّاج مع أنه لا يوجد نص في ذلك، ولكن من
باب المصالح المرسلة أصدر عمر بن عبد العزيز أمره هذا (وهو ما يسميه الحنفية: مقاصد الشريعة).

2-
قال الإمام مالك: لو أنَّ صبيانًا يلعبون ويتشاجرون ويمزِّق أحدهم ثوب
الآخر أو يتلف متاعًا (يكسر زجاج منزل أو سيارة مثل)
فالوالد (أي أبو الولد الذي سبب الضرر) يضمن
(أي يدفع تعويضًا عن الضرر الحاصل) وإن لم
يكن الولد بالغًا، ولكن هنا الشهود كلهم أولاد، والقاعدة أنَّ الشهادة لا
تصحُّ إلا من بالغ كبير، ماذا نفعل إذا تركنا القضية هكذا؟ طبعًا ستقع
مفاسد كثيرة، والمصلحة المرسلة هنا التي تتوخاها الشريعة هي أن نقبل شهادة
الصبيان بعضهم على بعض في أمور إجرائية من هذا القبيل.

3-
تدوين قواعد اللغة العربية والمجامع الفقهية والمؤتمرات كلها أشياء حسنة
تخدم مصلحة الدين.

سابعًا:
العُرف: إنَّ العرف في الشرع له اعتبار فيما لم يرد فيه نص أو كان الأمر
غامضًا، والأئمة كلهم متفقون على ذلك، ويقسم الإمام مالك العرف إلى قسمين:
عرف قولي وعرف فعلي أو سلوكي (فقط في العقود).


مثال
على العرف القولي: كلمة اللحم، فلو أنَّ رجلاً أقسم ألا يأكل لحمًا، ننظر
ماذا تعني كلمة اللحم في عرفهم؛ فأحيانًا تُطلَق ويُقصَد بها لحم الضأن (الخروف)، وفي بعض الأعراف تُطلق ويُقصَد بها لحم
البقر، وفي بعض الأعراف يُقصد بها لحم السمك، فإذن يقع القسم على ما هو
معروف عندهم، إلا إن قصد كل اللحم ساعتئذ فتكون النية مقدَّمة على دلالة
العرف.

مثال
آخر على العرف القولي: لو نذر فلان أن يتصدَّق بكل ما في جيبه من دراهم،
وكانت الدراهم في عرفهم تُطلَق على عملة البلاد فلا يجب عليه أن ينفق من
العملات الأخرى إن وُجِدَت في جيبه إلا إن نوى غير ذلك.

أما
العرف السلوكي فهو مثلاً: أن يعقد فلان على فلانة دون أن يتفقا على موعد
لدفع المهر، وكان العرف أن يُدفَع قبل الدخول ساعتئذ يكون هذا هو الحكم.

مثال
آخر: ولو اشترى رجل سيارة مثلاً ولم يشترط أن تكون مكيَّفة والبائع لم
يشترط ذلك، فاختلف المشتري والبائع، ننظر إن كان العرف أن تكون غير مكيفة
-كما في بلادنا- فالحق مع البائع، أما إن كان العرف أن تكون مكيفة -كما في
بلاد الخليج- فيكون الحق مع المشتري.

قاعدة "المعروف عرفًا
كالمشروط شرطًا".

يقول
الإمام مالك: إن النصوص القرآنية ونصوص السنَّة إنما تُفَسَّر على ضوء
العرف القولي في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم، وهكذا فالعرف القولي
مفتاحٌ هام وخطير جدًّا لِفَهم النصوص، ونضرب على ذلك مثالاً: ما جاء في
الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إن زكاة الفطر هي صاع من
غالب قوت البلد. كلمة صاع عبارة عن مكيال معيَّن، هذا المكيال يتغير من بلد
إلى بلد ومن عصر إلى عصر، فالصّاع في العراق كان غير الصاع في مصر غير
الصاع في المدينة.. فإذن نحن نفسر ذلك بما كان معروفًا عندما قال رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- هذا الحديث في المدينة.

مثال
آخر: كلمة النبيذ كانت تعني أو يُقصَدُ بها شراب مُكَوَّن من الماء والتمر
ولا يُقصد بها النبيذ المسكر المعروف في عصرنا، وقد شرب رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- النبيذ، وهذا كان سبب الإشكال الذي وقع فيه الكثير من
المستشرقين عندما قرأوا كتب التاريخ فوجدوا أن هارون الرشيد كان يشرب
النبيذ وظنوه من السكارى.

قال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إنَّ من أشدّ الناس عذابًا يوم القيامة
المصوِّرين". وفي حديث آخر: "كُلِّفَ أن ينفخ فيه الروح وما هو بنافخ". هنا
نفسر المصوِّر حسب العرف الدارج في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
وبهذا لا يشمل الحديث الصور الفوتوغرافية والمرايا وانعكاس الضوء؛ فيكون
حُكم هذه الأشياء الجواز، علمًا أن الإنسان له أن يبتعد عن هذه الأمور من
باب الورع، ولكن هذا لا ينفي جوازها وعدم حرمتها؛ فالورع أمر والجائز أمر
آخر، وبالطبع فالشيء المصوَّر له حكم آخر إن كان صورًا لفتيات عاريات لا
خلاف في أنه حرام قطعًا.

أما
الدليل الشرعي للأخذ بالعرف أن الله تعالى أمرنا في كثير من الآيات أن
نحتكم إلى العرف بقوله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ
وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ
﴾[الأعراف :
199]. أي: اجعل العرف أساسًا.

قالت
هند زوجة أبي سفيان يوم فتح مكة وكانت تبايع رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- على ألا تسرق ولا تزني، قالت له: لقد كنت آخذ من مال أبي سفيان الهنة
تلو الهنة (أي الشيء القليل دون علمه)، ماذا
أصنع؟ فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المستقبل: "خذي ما
يكفيك وأولادك بالمعروف".

مثال
آخر: قال الله تعالى: ﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ
أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ
﴾[البقرة : 233]. قال
الإمام مالك: إن كانت المرأة من الأغنياء أو كانت شريفة (العادة عندهم أن النساء الأغنياء لا يرضعن) ساعتئذ
لا يجب عليها الإرضاع، ولكن هو حق لها، أما إن كانت غير ذلك فهو واجب
عليها؛ لأن ذلك لم يأتِ بصيغة الأمر الجازم كقوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ[البقرة: 233].

قاعدة "إن النص يُهَيمِنُ على
العُرف، ولا يهيمن العرف على النص".

ونأخذ
بالعرف فقط في الأمور التي علَّقها النص على العرف، أما ما ورد فيه نص فلا
يغيِّره العرف حتى لو ترك أهل بلدٍ ما جميعًا العمل بحكم شرعي، يبقى الحكم
الشرعي كما هو، فلا نقول: إنَّ العرف السائد اليوم هو عدم ارتداء الحجاب
مثلاً خلافًا للعرف قديمًا، وأن الزمن قد تغير، فلو كان الأمر هكذا ما كان
للشريعة الإسلامية معنى إذا كنا دائمًا نحتكم إلى العرف فقط دون النص.



أسباب انتشار مذهب الإمام
مالك:

شاع
مذهب الإمام مالك في المغرب كثيرًا مع أن مالكًا لم يترك المدينة؛ وذلك
لأن المدينة كانت تستقطب أناسًا وعلماء كثر أيام الحج وفي غير أيام الحج،
ومن الأسباب التي ساهمت في انتشار مذهب الإمام مالك دون سواه -كمذهب
الأوزاعي أو سفيان الثوري- تقييض الله -سبحانه وتعالى- لمالك تلاميذ كثر من
مختلف الأصقاع، فمن مصر كان الليث بن سعد، ومن المغرب ومن العراق ومن
الشام ومن اليمن كلهم تتلمذوا على الإمام مالك، وهم الذين قاموا بنشر مذهبه
حتى وصلنا بالتواتر بحيث يستطيع الإنسان أن يجزم أنه عندما يقرأ الموطأ أو
المدونة برواية سحنون أو غيره من تلامذة مالك يستطيع أن يجزم أنه يتبع
إمامًا راسخًا في العلم، ويبرأ ذمته عند الله باتباعه والحمد لله.

وهكذا
انتشر مذهبه في المغرب وفي مصر وفي صعيد مصر وفي اليمن وفي أنحاء مختلفة
متفرقة، حتى أنَّ فرنسا حين استعمرت أقسام كثيرة من المغرب مدة طويلة،
اطَّلع علماء القانون الفرنسيون على الفقه الإسلامي لا سيما مذهب الإمام
مالك فأُعجِبوا به أيّما إعجاب؛ لذلك نرى أن القانون الفرنسي اليوم يعتمد
اعتمادًا كبيرًا على فقه الإمام مالك.

وبواسطة
هذه النافذة انتشر الفقه الإسلامي في فرنسا، واطَّلع عليه كثير من
المستشرقين في أوروبا الذين بدأوا يتحركون لِصَدِّ ومحاربة هذا الغزو
الإسلامي؛ وذلك بزرع الشكوك والشبهات ليُبعدوا الناس عن الإسلام، فادعوا
قائلين: هؤلاء العرب أصحاب الأدمغة القانونية مثل مالك وأبو حنيفة جاؤوا
إلى الأعراف القَبَلية عند العرب، فدوَّنوها وجمعوها ونظَّموها، وفكروا
بطريقة يخلدون هذه الأحكام بها، ووجدوا أنَّ الطريقة هي أن يبتدعوا لها
إطارًا دينيًّا؛ فاخترعوا لها الأدلة من الأحاديث والنصوص القرآنية لكي
يرسخوا بهذه الأدلة الأعراف العربية والقبلية التي كانت سائدة منذ العصر
الجاهلي! أيُعقل هذا الكلام؟ الإمام مالك الذي رحل إليه الناس وقال: لا
أدري، والذي كان لا يُحَدِّث حتى يغتسل ويلبس البياض من الثياب، ويبكي
عندما يذكر حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم، والذي لم يطأ المدينة
بحافر دابة قط أدبًا مع النبي -صلى الله عليه وسلم، أيُعقل بعد كل هذا أن
يُقال عنه ما قيل؟ فهذا شاخت وهو أحد المستشرقين أعداء الإسلام يقول: إنَّ
مالكًا اخترع الحديث! فكل واحد يقيس الناس على نفسه، فالدجّالون أمثال:
كريمر وشاخت وغيرهم يجلسون في ما بينهم فيختلقون الأكاذيب، ثم يظهرونها على
أنها حقائق، ويظنون أن غيرهم يفعل الشيء نفسه.

يقول
الدكتور أمين المصري -رحمه الله- وهو أحد علماء الشام: إنه عندما ذهب إلى
أوروبا لنيل شهادة الدكتوراه في الشريعة الإسلامية -هكذا حظنا أن ندرس
الشريعة الإسلامية في أوروبا!! فكَّر في موضوع لأطروحته، فوجد كتاب شاخت عن
الفقه الإسلامي من أهم الكتب في أوروبا، (وكتاب
شاخت هذا يعتمد ويؤكد هذه النظرية الباطلة التي أشرنا إليها عن اختراع مالك
للحديث
)، فقرر أن تكون أطروحته دراسة هذا الكتاب، فجاءت دراسته
موضحةً بما لا مزيد عليه للبس، كاشفةً أكاذيبهم، دافعةً لكل أباطيلهم
وافتراءاتهم؛ بحيث يتبين القارئ المنصف حقدَ أولئك المستشرقين وتعنتهم الذي
أخرجهم عن المنهج العلمي في البحث ودفعهم لاختلاق الأكاذيب.

وهذا
ما دفع إدارة الجامعة إلى رفض أطروحته، وألزمته بالتحول عن هذا الموضوع،
فلما أبى لم يستطع أن يحصل على شهادة الأستاذية، واضطر أن يأخذ شهادة في
علم النفس وعلم التربية وأن يترك دراسة الشريعة الإسلامية في الغرب.

وفاته:

توفي
الإمام مالك في أوائل عام 179 هـ عن 87 سنة في الأرض التي لم يفارقها قط
إلا للحج حبًّا وشوقًا للنبي -صلى الله عليه وسلم، وقد بقي مفتيًا للمدينة
مدة ستين سنة، وكان من أبلغ الناس حزنًا عليه وأشدهم بكاءً تلميذه النجيب
ووارث الإمامة من بعده محمد بن إدريس الشافعي، ولقد دُفِنَ -رضي الله عنه-
في البقيع.

وكان
الإمام مالك قد ترك حضور الجنازات في آخر حياته، وكان يأتي أصحابها
فيعزيهم، ثم ترك ذلك كله، ولم يشهد الصلوات في المسجد ولا الجمعة أيضًا،
فعوتِبَ في ذلك فقال: ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره، وعُلِمَ بعد ذلك
أنه كان قد أُصيبَ بسلس البول، وكان يخشى أن يُنَجَّسَ مسجد رسول الله -صلى
الله عليه وسلم، وقال وهو يودِّع الدنيا: لولا أني في آخر يوم من الدنيا
وأوله من الآخرة ما أخبرتكم، سلس بولي، فكرهت أن آتي مسجد رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- على غير طهارة استخفافًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم،
وكرهت أن أذكر علَّتي فأشكو ربي!!

من أقواله:

-
كلما كان رجل صادق لا يكذب في حديثه (أي مطلق حديث)
إلا مُتِّعَ بعقله ولم يصبه مع الهرم آفة ولا خرف.

-
من لم يكن فيه خير لنفسه لم يكن فيه خير لغيره.

انتهينا
من الحديث عن الإمام مالك وفقهه، والسبب الذي جعل مذهبه ينتشر ويترسخ في
كثير من أنحاء العالم الغربي والإسلامي، وعرفنا كيف أنَّ اجتهاد الإمام
مالك زاد في التقريب بين مذهبي أهل الحديث في الحجاز وأهل الرأي في العراق،
وعرفنا لماذا نَمَت مدرسة الحديث في الحجاز؟ ولماذا نمت مدرسة الحديث في
العراق؟ وتكلمنا أيضًا عن دور الإمام أبي حنيفة والإمام مالك في نسج شجون
الصلة بين هذين المذهبين في الشكل الذي ذكرناه وانتهينا إليه، والآن ننتقل
إلى الكلام عن الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الإمام مالك- إمام دار الهجرة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الأمير :: المنتدى الديني :: المنتدى الديني-
انتقل الى: